سوريا ولبنان: هوامش المقاربة العربيّة الجديدة

سوريا ولبنان: هوامش المقاربة العربيّة الجديدة

الكاتب: إيلي القصيفي | المصدر: اساس ميديا
21 ايار 2023

عقب الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية طُرح سؤالٌ عمّا إذا كان الاتفاق يقيم ربطاً بين الساحات التي كانت طوال السنوات الماضية بؤر نزاع بين البلدين. لكن في الموازاة جرى الحديث من قبل الطرفين عن انعكاسات إيجابية لهذا الاتفاق على تلك الساحات. وهو ما قدّم جواباً أوّليّاً عن السؤال المطروح، لكن ليس إلى الحدّ الذي يفصح عن مضمون الاتفاق لجهة انطوائه على مقايضات بين طرفَيه، على قاعدة أنّ تحقيق الأولويّات السعودية في اليمن يدفع المملكة إلى “إعطاء” إيران في سوريا ولبنان.

فهمٌ ناقص

الواقع أنّ فهم ديناميكية هذا الاتفاق ما يزال يحتاج إلى مزيد من الوقت وإن كان من المؤكّد أنّه شكّل فاتحة لمرحلة إقليمية جديدة، لكن على الرغم من ذلك لا بدّ من التأنّي في تفسير مساراته. أحد الأمثلة على ضرورة التأنّي هذا هي تطوّرات التطبيع السعودي مع النظام السوري، باعتبار أنّ هذا التطبيع هو انعكاس لمقاربة سعودية جديدة للملفّ السوري كان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان قد مهّد لها على هامش مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن في شباط.

لا يمكن فهم مسار التطبيع السعودي مع النظام السوري وحدود هذا التطبيع من خلال القول إنّ هذا المسار هو نتيجة للاتفاق بين الرياض وطهران. وإن كان هذا الاتفاق قد شكّل حافزاً إضافياً لهذا التطبيع، لكنّه في المقابل لا يختصر أسبابه ودوافعه. وهو ما يضعف الحجّة القائلة إنّ هذا الاتفاق قام على “أخذ” المملكة في اليمن و”إعطائها” في سوريا ولبنان، خصوصاً في ظلّ الوقائع الحالية في كلا البلدين.

معادلة مغلوطة

هذه “نظريّة” مغلوطة وغير متماسكة باعتبار أنّ الاتفاق نفسه هو نتيجة لسياسة سعودية جديدة تقوم على مبدأ “تصفير المشاكل”، وهو ما ينطبق حتماً على مسار التطبيع السعودي مع النظام في سوريا.

لذلك لا يمكن قراءة هذا التطبيع بوصفه مكسباً إيرانياً فيما تعتبره المملكة ودول عربية عدّة، في مقدَّمها مصر، مكسباً سعودياً وعربياً. حتّى اعتبار الدول العربية أنّ هذا التطبيع هو رهانٌ أو “خطر محسوب” لا يجعل منه منذ الآن مكسباً إيرانياً صافياً.

لكن في الوقت نفسه لا يمكن الظنّ أنّ مسار التطبيع العربي مع دمشق سيدفعها إلى الابتعاد عن طهران. فالوقت تأخّر كثيراً لتوقّع ابتعاد كهذا، وتجعل الوقائع في “الميدان السوري” هذا التوقُّع ضرباً من الوهم، خصوصاً أنّ إيران ليست في وارد التخلّي عن الورقة السوريّة، وإن كانت لا تمانع قيام أدوار عربية جديدة في سوريا، لا بل هي ترى في هذه الأدوار مصلحة حيوية لها لأسباب متّصلة بالوضع السوري الداخلي، أوّلها الأزمة الاقتصادية ومعوّقات إعادة الإعمار، وبالنظر أيضاً إلى “تحدّي” العودة العربية إلى سوريا للاستراتيجية الأميركية تجاهها. لكن في المقابل يقترن اتّساع حدود هذه العودة بلا أدنى شكّ بتحقيق مكاسب عربية في سوريا. ولذلك إيران مضطرّة إلى الاعتراف بهذه المكاسب وإلّا انتفت أسباب العودة تلك.

معادلة معقّدة

إذا كان هناك واقع أمنيّ وسياسي إيراني في سوريا لا لبسَ فيه ولا يمكن تغييره بطرفة عين، فإنّه في المقابل لا إمكانية للخروج من الواقع السوري المأزوم من دون حضور عربي في دمشق. هذه معادلة معقّدة ودقيقة تستدعي تنازلات حتمية من دمشق وطهران، وإن كانت حدود هذه التنازلات مرهونة بسقف الشروط العربية في الملفّ السوري.

هذا مسارٌ طويل ما يزال في بدايته، والأكيد أنّ مِحكّاته الأساسية تبدأ بالظهور بعد حضور بشار الأسد القمّة العربية في جدّة. فهذا الحضور يخدم الآن مصلحة سعودية في إنجاح قمّة “مدّ الجسور”، أي في جعلها استثنائية لا تشبه سابقاتها، لكنّ الاختبار الحقيقي للرهانات السعودية والعربية في سوريا سيبدأ بعد عودة الأسد إلى دمشق.

ماذا عن لبنان؟

ما ينطبق على سوريا لناحية المقاربة العربية الجديدة حيالها ينطبق أيضاً على لبنان لناحية التحرّك السعودي على خطّ أزمته.

في الواقع لا يمكن النظر إلى السياسة السعودية “الجديدة” إزاء الأزمة اللبنانية بوصفها جزءاً من مقايضات بين الرياض وطهران، أي بوصفها تسليماً سعودياً مطلقاً بالمصالح الإيرانية في لبنان. لكن في المقابل تفرض إيران عبر الحزب أمراً واقعاً في بيروت، سابقاً على الاتفاق الإيراني – السعودي، ولا يمكن توقّع أن يكون هذا الاتفاق سبباً في تغييره.

لكن يقتضي الأخذ في الحسبان أنّ الوضع في لبنان أكثر تعقيداً من سوريا لجهة قدرة المقاربة العربية الجديدة على إحداث تعديلات في قواعد اللعبة، لأنّها “تصطدم” في لبنان مباشرة بحزب الله، أي بإيران. وذلك بخلاف سوريا حيث يكثر اللاعبون الإقليميون والدوليون، وبالأخصّ روسيا التي تدعم النظام وتربطها في الوقت نفسه علاقات جيّدة مع السعودية، وإن كان ذلك لا يوفّر أسباباً كافية لرفع سقف التوقّعات إزاء حدود الاختراقات العربية في الملفّ السوري. ويبدو أنّ ملفّ النازحين سيشكّل بنداً رئيسياً واختباراً أساسياً في مسار التطبيع العربي مع دمشق في المرحلة المقبلة.

الغائب الحاضر

والحال هذه ثمّة معطيان أساسيان لا يمكن إغفالهما في مقاربة الملفّين السوري واللبناني:

-الأوّل هو الحضور الأميركي في كلا الملفّين، ويمكن القول راهناً إنّ واشنطن هي الغائب الحاضر الأبرز فيهما.

-الثاني هو أنّ زخم الاتفاق الإيراني السعودي لا يبدو أنّه يسير بوتيرة ثابتة وقد انقضت مهلة الشهرين التي تضمّنها الاتفاق لإعادة فتح سفارتَي الدولتين في كلّ من الرياض وطهران. كما أنّ مسار المفاوضات بشأن اليمن لم يكتمل بعد، بعدما أوحى إبرام اتفاق تبادل الأسرى في جنيف غداة توقيع الاتفاق السعودي الإيراني بتسارع وتيرة الحلّ اليمنيّ.

هذا لا يعني طبعاً أنّ الاتفاق تعرّض لانتكاسة أو أنّه بدأ يسلك مساراً معاكساً، لكنّ اتّضاح الأمور يحتاج إلى مزيد من الوقت. وهو ما يمكن تلمّسه من تطوّرات الملف الرئاسي في لبنان، وخصوصاً لناحية “الحياد” السعودي حياله، وهو ليس حياداً سلبيّاً، لكنّه في الوقت نفسه حيادٌ لا يسمح بانتخاب رئيس يريده الحزب وإيران، ولا يتيح القول إنّ الرياض تسلّم بشروطهما في لبنان. وهذا ما يجعل توقّع مهل قريبة لانتخاب رئيس للجمهورية ضرباً من التّسرّع ما دامت المتغيّرات في المنطقة لا تسير بوتيرة سريعة إلى الحدّ الذي يجعل انعكاساتها سريعة “أكثر من اللازم” في بؤر الصراع التقليدية.

وقت مستقطَع

والحال هذه فإنّ المعاندات الداخلية لملاقاة هذه المتغيّرات لا ترجع فحسب إلى موقف أفرقاء الداخل، وبالأخصّ معارضو حزب الله، من هذه المتغيّرات وانعكاساتها المتوقّعة على لبنان، بل إنّها ترجع أيضاً إلى وجود وقت مستقطَع قبل بلوغ هذه المتغيّرات نهائيّاتها.

وما يطيل أمد هذا الوقت المستقطَع أنّ حزب الله نفسه غير مستعجل لانتخاب رئيس، أو لإبرام تسوية سياسية للأزمة القائمة، لأنّ الستاتيكو الحالي لا يشكّل عامل ضغط عليه، ولأنّه ينتظر الوقت الأنسب لقطاف ثمار التسوية الموعودة، وهو وقتٌ لم يحِن بعد. كما أنّه لم تصدر إشارات خارجية توحي بأنّ هناك أطرافاً خارجية تستعجل الحلّ في لبنان، أقلّه في الأمد القريب. حتى الحديث عن عقوبات ضدّ معرقلي الاستحقاق الرئاسي تراجعَ بعد تردّد أنباء عن رفض فرنسا اقتراحاً ألمانيّاً في هذا الاتجاه.

لذلك كلّه لا يُتوقّع أن تعدّل القوى المعارضة للحزب مواقفها من الانتخابات الرئاسية، وتحديداً لجهة استعدادها تأمين النصاب البرلماني لانتخاب مرشّح الحزب سليمان فرنجية. إذ يُضاف إلى موقفها الداخلي من الحزب وفرنجية عدم تلمّسها بعد إشارات عربية ودولية جدّيّة باتجاه القبول غير المشروط بشروط الحزب لحلّ الأزمة. وإن كان ثمّة سؤال أساسي عن كيفية تصرّف هذه القوى في حال بروز إشارات عربية ودولية إلى ضرورة استعجال انتخاب رئيس للجمهورية في ظلّ رفضها النهائي لوصول فرنجية إلى قصر بعبدا. وهو ما يترك الباب مفتوحاً دائماً أمام مرشّح “توافقي” آخر، وإن كان “خيار فرنجية” لم يسقط نهائياً بعد.

موقف واشنطن

هنا يقتضي البحث عن الموقف الأميركي من أيّ تسوية محتملة، لا لأسباب أميركية وحسب، بل لأسباب إيرانية أيضاً، باعتبار أنّ طهران لطالما لعبت الورقة اللبنانية على طاولة مفاوضاتها مع واشنطن. والآن هناك أنباء عن تبادل رسائل بين الطرفين، وكان لافتاً جدّاً تذكير وزير الخارجية الإيراني أخيراً بأنّ إيران تسعى إلى رفع العقوبات الأميركية عنها.

هذا مسار أساسي بالنسبة لإيران لا تعوّضه أيّ من المسارات الدولية والإقليمية الأخرى.

لذلك لا يمكن النظر إلى مواقف حسين أمير عبداللهيان من مارون الراس وإلى المناورة العسكرية – الإعلامية للحزب في الجنوب إلّا بوصفهما تحريكاً للورقة اللبنانية لتوجيه رسالة إلى أميركا… وربّما استدعائها إلى التفاوض. وإن كانت مناورة الحزب إشارة متقدّمة إلى “رجوع” الحزب من سوريا إلى الجنوب!