ملف النزوح السوري في لبنان من فورة غير متوقَّعة إلى خفوتٍ مفاجئ
كما في كل قضية سياسية أو أمنية حساسة ينقسم الرأي العام اللبناني السياسي والشعبي حيالها، تحوّل ملف النازحين السوريين في غضون أيام حدَثاً أول في غياب الحدَث السياسي ولا سيما أن الضجيجَ المستجد حوله تَزامَنَ مع ذكرى انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 ابريل 2005.
ورغم أن اجتماعاً وزارياً أمنياً وسياسياً إنعقد برئاسة رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي خلص إلى تكليف الأمن العام اللبناني التنسيق في قضية النازحين مع القوى الأمنية، إلا أن ثمة إنطباعاً تكوَّن لدى جهات أمنية بأن هذا الملف في طريقه إلى أن يطوى، في ضوء تَصاعُد الضغوط الدولية ومن المجموعات التي تُعنى بحقوق الإنسان التي تحرّكت داعيةً لبنان إلى وقف إعادة النازحين في الشكل الذي يتم فيه.
وينقسم ملف النزوح إلى سياسي وأمني:
سياسياً ومنذ ان بدأت أولى مجموعات النازحين تصل إلى لبنان مع بداية الحرب السورية، تعاطى اللبنانيون حيال هذا النزوح من وجهتين مختلفتين. فسارعت قوى «14 مارس» إلى الدعوة لإستقبال الهاربين من آتون الحرب السورية وغالبيتهم يفترض أن يكونوا من معارضي الرئيس بشار الأسد ونظامه. فيما تحفّظت قوى «8 مارس» عن هذا الدخول ورفضتْ، وفي مقدّمها «التيار الوطني الحر» بزعامة ميشال عون آنذاك، إقامة مخيمات حدودية لهم أسوة بما فعلتْه تركيا والأردن.
منذ ذلك الوقت والقضية تتفاعل مع إرتفاع عدد النازحين وتَفاقُم المشكلات الإجتماعية والإقتصادية في لبنان، وسط مسارعة الأمم المتحدة والمفوضية العليا لشؤون النازحين، وجمعيات إنسانية تعنى بشؤونهم إلى تقديم مساعدات مالية وعينية إلى السوريين الأمر الذي فاقَمَ حساسيات المجتمعات اللبنانية المضيفة التي تغرق في الفقر وإنعدام فرص حصولها على الدولار الأميركي الذي صار بمتناول النازحين.
في الأيام الأخيرة سُجِّل إرتفاعٌ في حدة الكلام عن النزوح السوري سياسياً وإجتماعياً، في ضوء عوامل إقليمية تتعلّق بمفاوضات دول عربية عدة مع سورية، والتي يدخل النازحون في صلبها. أما محلياً، فلا شك في أن الملف يحمل في طياته بذورَ خلاف جوهري بين أطراف تؤيد عودةً آمنة للنازحين إلى بلادهم، وأطراف تريد إعادتَهم ما دامت الحرب العسكرية إنتهت عموماً في بلادهم.
ينطلق معارضو «ترحيل السوريين إلى بلادهم» من إعتباراتٍ عدة، أوّلها إتهام النظام السوري بالانتقام من العائدين عبر توقيف نازحين وسجنهم من دون أي موجبات، وتالياً فإن النازحين غير قادرين على العودة إلى بلادهم في صورة آمنة وأكثريتهم من المعارضين للنظام. ويقدّم هؤلاء بعض الأدلة عن تعرض عائدين إلى التحقيق والسجن وشتى الممارسات الإنتقامية.
ويعتبر الرافضون لإعادة السوريين من دون ضمانات أن الأجهزة الأمنية اللبنانية والوزارات الخاضعة لتأثيرات «حزب الله» كوزارة العمل والشؤون الإجتماعية هي التي تدفع في إتجاه ترحيل النازحين. ويشنّون حملة مضادة على المُدافعين عن الترحيل بتهمة العنصرية.
وفي رأي هؤلاء أن هذه القضية فتحت اليوم خدمة لمشروع سياسي يتعلق بترشيح رئيس تيار «والمردة» سليمان فرنجية والكلام العلني الذي قاله لجهة أنه قادر على حلّ مشكلة النازحين مع سورية. في حين إتهمت بعض القوى قائد الجيش العماد جوزف عون بأنه بدأ حملة رئاسية من خلال ترحيل السوريين إلى بلادهم.
لكن المفارقة ان قوى «14 مارس» التي كانت أول مَن دافع عن حق النازحين بالوجود في لبنان وضرورة إستقبالهم، بدأت ترفع الصوت مطالبة بتنظيم هذا النزوح بسبب التجاوزات والأعمال المخلّة بالأمن ونتيجة توسع سوق العمل السوري في لبنان إضافة إلى ظاهرة دخول سوريين إلى بلادهم والعودة منها.
في المقابل فإن المُدافعين عن ضرورة إعادة النازحين إلى سورية ينطلقون من ثوابت مختلفة تتعلّق بحركة دخول سوريين إلى بلادهم وعودتهم منها في صورة دورية ما ينفي عنهم صفة نازح. وقد كشف وزير العمل مصطفى بيرم أخيراً أن 37 الف سوري إنتقلوا إلى بلادهم في عطلة الفطر وعادوا منها إلى لبنان. علماً انه في عامي 2014 و2021 سجلت نسبة مرتفعة لتصويت النازحين السوريين للأسد في سفارة بلادهم في لبنان ما يعني ان المقترعين هم موالون للأسد وليسوا نازحين معارضين. وفي المرتين علّت أصوات تطالب بترحيل هؤلاء.
كذلك سجل في المدة الأخيرة إرتفاع عدد النازحين في شكل مضطرد في عدد من المناطق نتيجة عمليات التهريب عبر المعابر الحدودية غير الشرعية. ومع تَعَذُّر الحصول على أرقام دقيقة لعدد النازحين السوريين في لبنان، برزت معطيات في بعض المناطق عن موجات إستقدام سوريين حديثة العهد، تفاقمت بعد حدوث الزلزال في سورية وتفشي الفقر في بعض مناطقها. ما عنى ان عمليات النزوح الجديدة منبعها إقتصادي، وخصوصاً أنها ترافقت مع عملياتِ مَسْحٍ في بعض المناطق البقاعية والشمالية تحدثت عن إرتفاع عدد المحال التجارية والحِرفية للسوريين في الأشهر الأخيرة. وهذا الأمر فجّر حساسياتٍ مع المجتمعات اللبنانية المضيفة، لا سيما ان عوامل الفقر تتداخل في البيئات اللبنانية والسورية في المناطق الشعبية.
ويَعتبر المدافعون عن إعادة النازحين السوريين أن موجات النزوح تنقسم إلى مسجَّلين عبر شبكات الأمم المتحدة، وهؤلاء هم نازحون بفعل أعمال العنف، ونازحون لاحقون غير مسجَّلين وهؤلاء يرتفع عددهم في شكل لافت. ويستند هؤلاء إلى مسح أمني يتحدّث عن إرتفاع عدد السوريين المتَّهَمين بجرائم سرقات وجنح وجرائم قتل، وان عدد السوريين في السجون اللبنانية مرتفع ما جعل من المحتّم معالجة هذه الظاهرة عبر ترحيل المقيمين غير الشرعيين والمتهَّمين بأعمال مخلة بالأمن.
وفي مقابل عجْز القوى الأمنية عن التعاطي مع هذا الملف، بعدما أوكل سابقاً إلى الأمن العام مهمة تنسيق عودة مجموعات من السوريين إلى بلادهم، جاءت قرارات الإجتماع الوزاري الأمني برئاسة ميقاتي قبل أيام لتعطي شرعيةً لقرار الجيش تنفيذ أعمال ترحيل في حق سوريين دخلوا لبنان خلسة من دون أوراق ثبوتية، لكن مع التنسيق المسبَق مع الأجهزة الأمنية.
والشقّ الأمني المتعلق بالنازحين يأخذ حيزاً مهماً، فإنفجارُ قضية النازحين بدأت في الأيام الماضية مع عمليات ترحيل قام بها الجيش اللبناني فارتفعت أصوات مستنكرة، لكن الجيش، بحسب المعلومات، لم يفتح الملف لمعالجته وهو ملف شائك دولي وإقليمي، كما انه لم يرّحل نازحين أتوا إلى لبنان ومسجَّلين عبر جمعيات الأمم المتحدة، بل يقوم بعمليات ترحيل إثر أعمال دهْم ينفّذها في مناطق عدة بحثاً عن مطلوبين ومَن دخلوا خلسة إلى لبنان أو مخلّين بالأمن ومطلوبين بجرائم وجنح.
وتؤكد مصادر أمنية أن هناك نحو ألفي سوري دخلوا خلسة الى لبنان منذ بداية العام الجاري، وتتحدّث عن نشاط شبكات التهريب بين لبنان وسورية عبر المعابر غير الشرعية كتجارةٍ رائجة يعتمدها المهربون شمالاً وبقاعاً ويتقاضون خلالها مئة دولار عن كل سوري يدخل خلسة.
وتشير المعلومات إلى ان الجيش الذي شُنّت حملة سياسية ضده بسبب أعمال ترحيل السوريين، مستمرّ في هذه العمليات التي تستهدف فقط الداخلين خلسة والمخلّين بالأمن، تنفيذاً لقرارات حكومية سابقة. فالجيش لا يدهم على سبيل المثال مخيمات النازحين الموضوعة بحماية المفوضية العليا لشؤون النازحين، إلا لتوقيف مطلوبين وليس لترحيل أي من المقيمين فيها «شرعياً»، في حين انه مستمر بدهم تجمعات سوريين دخلوا لبنان بطريقة غير شرعية. أما عملية ترحيلهم والتي لم تتجاوز بضع مئات قياساً إلى آلاف النازحين، فإنها تعرّضت للإنتقاد كونها لم تُنسّق مع المديرية العامة للأمن العام التي كانت أُوكلت إليها مهمة ترحيل نازحين راغبين بالعودة إلى بلادهم. ويفترض ان يبدأ التنسيق مع الأجهزة السورية المختصة عبر القنوات الأمنية المعتمدة من أجل تأمين نقل السوريين إلى بلادهم.
وإذ جاء قرار الحكومة ليفعّل التنسيق بين القوى الأمنية، إلا أنه يحتاج أكثر إلى تضافر الجهود القضائية، لأن القوى الأمنية غالباً ما تصطدم بإطلاق موقوفين أو مهرّبين نتيجة إكتظاظ السجون أو تَقاعُس بعض الأجهزة القضائية المختصة.