«تلاتي وسبعين صِبّاط وكَحفة نْعامي» موريس عوّاد العائد عنيفاً: لو فيّي أكتب بالمِكنسة، بالمِسّاس!
«تلاتي وسبعين صِبّاط وكَحفة نْعامي». موريس عوّاد عاد كما هو، فَجّاً مُتجرِّئاً لا أحد يشبهه ولا يشبه أحداً. فيا لسوء حَظّ الذين توهَّموا أنهم ارتاحوا، عندما أغمض عينيه ذات يوم من العام 2018.
أطلَّ موريس عواد مجدداً ليقول الأمور كما قالها دائماً: الأبيض أبيض والأسوَد أسوَد، ولو على قطْعِ رأسه، ولا مساومة مع الكَذَبة والخبثاء والمخادعين. الرجل لم يتعب من قَوْل الـ»لا» التي كلّفته غالياً جداً ومريراً جداً. ولأن مسافة الـ84 التي عاشها فوق الأرض لم تتسع لثورته، قرَّر أن يقول «لا» مرة أخرى من «هناك».
الكتاب الجديد ليس شِعراً. الشاعر نفسُه يصنّفه «آخر وصية» له. لكنه واقعياً سيرة ذاتية، autobiographie، جاء طابعها «عنيفاً إلى مأسوي»، كما وصفتها مؤسسة موريس عواد في المقدمة. ولكن، في هذه الوصيَّة أو السيرة كثير من التأمُّل والرؤيوية، ويتفجَّر الغضب كبركان. فهل الشعر سوى هذا كلِّه: تأمُّلٌ ورؤيا وعنف ومأسوية وغضب؟
بهدوء الحكماء، يَحدُسُ الشاعر بقرب انتقاله إلى المكان الثالث والنهائي، بعد بصاليم و»كفرغربي»، المكان الذي لا حدود فيه لزمانٍ أو مكان. وكما في كُتُب موريس عواد الثلاثة السابقة، يحتلُّ الموت حيّزاً وافراً في الكتاب، وفيه يبوح الشاعر أمام نفسه: «خِزّان جسمي لّي نْحَطّت في لْ حياة من تمانين سني، بلّش يِفضا».
الكتاب يؤرّخ لعلاقة الشاعر بقريته بصاليم التي «باعته بـ2000 دولار»، كما قال، ولانتقاله منها إلى «كفرغِربي»، حيث عاش أعوامه الـ14 الأخيرة. ولذلك، قد يبدو الكتاب للوهلة الأولى قصة خلاف شخصي، عائلي، قروي، يخصُّ الشاعر وحده، إذاً، فما شأن الناس به؟
ولكن، في العمق، قصة موريس عواد مع مجتمعه الأصغر والأكبر، قصة الظلم والقهر والاستبداد، هي قصة الناس عموماً. هي ليست محدودة في التاريخ والجغرافيا، بل هي قصة كل التاريخ وكل الجغرافيا. فالقهر – كما يقول- يتأتّى عن «لْ أغلاط يلّي الدين لْ إقطاعي لْ ما بيغلط كرَّسُن حَئايِء وئَدَّسن من ألف ل ألف سني».
في هذا المعنى، معاناة موريس عواد الشاعر في المجتمع هي نفسها معاناة الشعراء ورجال الفكر الذين تجرَّعوا صنوف القهر، لأنهم قاوموا المتجبّرين في مجتمعاتهم وناصروا الحقّ وتمسكوا بالحرية. أليست هذه قصة جبران خليل جبران مع تحالف الإقطاع – الإكليروس – الاحتلال، التي دفعت بوالدته إلى الفرار بأولادها بعيداً جداً؟ أليست بوسطن هي «كفرغربي» جبران خليل جبران؟
قُدس الأقداس في «وصيّة» موريس عواد هو أمُّه نْعامي. وفي الواقع، الكتاب هو انتقام بقوة الحبّ لنْعامي التي استضعفها الزمان بغدره وقسوته. هو سمفونية وفاء من الشاعر للمرأة التي أرضَعته «نكتار الشعر، شي من وجع لْ جمال وسَنتَكس لْ لغّا لْ لبنانيي». وبدءاً من العنوان والغلاف وحتى آخر حرف، يبدو الكتاب فعلَ سجودٍ نادر، لطفلٍ ثمانينيّ، تجاه أُمِّ قاتلت بأسنانها لتفتدي الأولاد.
نْعامي، العين التي قاومت المخرز، عصفورةُ البراءة التي قاتلت مجتمع الطغاة، تبدو مريمَ موريس عواد المتألقة طُهراً ونُبلاً، وهي نبعُ إلهامِه الشعري الأول. فـ»المَرا هيي إمّي التاني. إمّي الأوّلي جابتني ع الحياة، وإمي التاني هيي بتقعد بحرجي، وبْردِّلّا شي من يلّي عطتني ياه. كل التحف المهمّي بالتاريخ نْعملت ع وهج المرا، هيي الوحي الكبير»، قالها ذات يوم من العام 2011 في مقابلة صحافية.
يأبى موريس عواد أن يكون إلا ثائراً. يقرع ناقوس الخطر: الآن الآن، اخلعوا طاغوت الفاسدين المتحكّمين، وقبل فوات الأوان. وبكثير من الغضب والقرف، يقول: «زكِّرني بْ إسما… وْلَكْ هَيْ اللي بيحطووا بالزاوي وإلا غَطا (…) إي: Poubelle (…) بَلكي الشعوب لْ عايشين عَ أرض هَلْ معتّر لبنان ما عاد فيُن يبلعو ئَهرُن وِلْ ئَرف. وفِلتو بَدُّن يزتّوهن (يقصد طاقم السلطة)».
«قَولك رح يسترجو عَ زماننا؟» يسألونه، فيجيب: «إذا ما ستَرجَينا دَعْوَسناهن رح يصير لبنان escabeau» (ربما ترجَمتُها بعبارة «مَدْعسِة» ملائمة هنا).
موريس عواد «اللي جرَّبنا نشتريه أكتر من مَرّا. وهيئتو فَوْء التمن»، كما يقول، هل غريب أن يعاني هذا الاغتراب في عالمه؟ هل غريب أن يعاني شاعر بهذين التجرّؤ والفجاجة ما عاناه في تراجيديا «الأرض الخراب» التي عاشها؟ أليس الشاعر الشاعر – لا الشاعر المزوَّر والمزوِّر و»مسِّيح الجوخ» – هو الذي حدَّده شارل بودلير في قصيدته «L›Albatros»: «جناحاه العملاقان يمنعانه من المشي»؟
مِن سِمات موريس عواد أنه ما خافَ يوماً. بالصدر العاري صارَع رماح الفساد والإقطاع والموروثات القاتلة، تقوده روح الفداء كأي تموزيّ. بل آثَر الموتَ كحبة حنطة «لا بدَّ أن تموت وتقع في الأرض لتُنبِت سنبلة جديدة». موريس عواد الذي تعمَّق في معاني المسيحية في دير اليسوعيين، حتى عمر العشرين، ما وضَعَ سوى المسيح نموذجاً نصب عينيه: المسيح اضطهده المجتمع وتآمرت عليه السلطة، وخانه حتى الأقربون. المسيح كانت مدينته أورشليم، قاتلةً للأنبياء. والمسيح صُلبَ لكن العهد الجديد سيبقى ألفيةً بعد ألفية…
وعنه يقول موريس عواد: «وهادا أنا لْ يوم ع آخر ورقا من كلندا (روزنامة) لْ عمر، مش بائيلي من بْصالين نْعامة وموريس بصاليم إلا إني إلْعَنا لعنة يسوع ع أورشليم لّي بلْ آخِر شتَرِتو بْ تلاتين فضّايي. وما بائيلي من مجد إلا سئف بْ كفرغربي إلطا تحت منو مدري ل أيا بكرا من مرئتي عَلْ أرض».
عاش موريس عواد غريباً، وطوَّقته الحراب لأنه «غير شكل» عن الآخرين، ولأن هؤلاء لم يتحمَّلوا قوة البراءة في عينيه والصدق في حنجرته، فأمعنوا في تَغريبِه وقهره.
ومن حسن الحظ أنه لم يشاهد صُوَر منزله، وآليات الهدم تعمل فيه تدميراً. لكن قلبه اعتصر بالأسى، وتملَّكه الغضب، عندما رأى بأُمّ العين أولئك الذين لم يتورَّعوا عن استكمال الجريمة بنهب ما تبقّى من أثاث المنزل واقتلاع الأشجار من الحديقة. ولعلَّهم يفعلون ذلك كي لا تكون شاهداً على الجريمة ذات يوم.
يقول: «ولا يوم – حتا مِن أنا وصَبي، حسَّيت إنّا ضيعتي. باعتني وشهدت زور عليي».
– «سألْت حالك شي مَرّا، ليش سترخصوك، وباعوك بْ ألفين دولار؟
+ ولا مَرّا.
– لَيّْ ؟ يئست ؟
+ يلّي شتغل عشرين سني ع لبننة لْ عهد الجديد ما بَئا يعرف ييئس، وكيف إزا إمو نْعامي رضّعتو حليب الرجا (…) راس الصنوبرا لْ مِيّويّي ما بيسأل جبّ الطيون ليش فرَّخْت ع كعبي؟
– ولّي باعوك ب ألفين دولار…
+ مش إلا كَومة لحم وائفين ع إجرتين، إلن ستعشر ضرس وسن يعضّو، إيدتين يكمشو (…)
كعادته في الكتابة، كان موريس يعيد صياغة المسوَّدات مراراً وتكراراً ليبلغ النسخة التي تُرضيه فيرسلها إلى المطبعة. وهذا الكتاب، كان في صدد إنجاز نسختَه الثانية عشرة عندما أوى إلى فراشه تلك الليلة، وترك صفحاتها الأخيرة ناقصةً إلى الأبد.
وقد ارتأى القيّمون على مؤسسة موريس عواد اعتماد النسخة 11 التي كانت الأكمل، والجزء المنجز من النسخة 12 «التي تُظهِر بأسلوبها وأخطاء ترقيم مقاطعها وأشكال الكتابة فيها حالة موريس النفسية والتعب الجسدي الذي بلغه في الأشهر الأخيرة من حياته»، كما يقولون.
ذات يوم من العام 2018، غادر موريس عواد صقيع «كفرغربي»، واستقرّ في «كفردفءٍ» تحتضنه إلى الأبد. ومن هناك، من المكان الذي لا حدود له، حيث لا قهر ولا قرف، يطلّ شاهراً كلمته بكامل قسوتها:
«لو فيي إكتب بلْ مِكنسي… بلْ عصا… بلْ مِسّاس»! (القضيب الذي به يُستَحَثُّ الثور على التقدُّم خلال عملية الفلاحة). ويضيف: «مَرّات السكوت أَخْرا وأسَمّ مْنِلْ حَكي. وما تِنسا لْ حكي والسكوت لّي بينشَرو وبينباعو بل كوليس (…)».
لا ينحني موريس عواد. ولا أحد ولا شيء يثنيه عن الثورة: «بْتِزْكُر التنين وسبعين تلميز يلّي بَعَتُن يسوع ت يبشّرو، كيف نفضو غبرة صبابيطن ب وج الضياع لي ستلشئو فيُن؟ صاروا تلاتي وسبعين… صباط… وزيد عليُن سكربينة نعامي اللّا يرحما».
يقول ملكار خوري، نجل الشاعر: «عندما رحل موريس، هَمس البعض أو جَاهر بأنّ أولاده «بِكرا بيكِبّولو ورائو عَ التتخيتي. بيئَرئِطُن لْ عِتّ، وبتاكِلُن لْ غَبرا»، فنرتاح منه ومن قلمه المَسنون. لكنّ هؤلاء أخطأوا التقدير».