ضمان الترسيم: المصالح الاستراتيجية بين لبنان وإسرائيل
مشهد “الترسيم البحري” بين لبنان وإسرائيل وأثر تراجع الآمال بعقده، يشبه الغرفة المربّعة. في كلّ زاوية منها تقف إحدى القوى المعنيّة بالملفّ. الكلّ محشور يبحث عن مخرج لائق لإتمام الترسيم وليس لإسقاطه. كلّ له حساباته الداخلية، والمفارقة أنّ بعض الحسابات تتشابه بين لبنان وإسرائيل.
في السياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد محرج من ملاحظات لبنان، وتحديداً بشأن قانا، ويريد انتزاع المزيد من لبنان لاستخدامه في المعركة الانتخابية المقرّرة في 1 تشرين الثاني المقبل. ولـ”قانا” حسابات داخلية لبنانية تمنع الموافقة على استخراج قد يُعدّ مشتركاً، خصوصاً إذا اتُّفِق على حصول إسرائيل على جزء من مخزون هذا الحقل المُفترض عبر شركة “توتال” الفرنسية. وهو ما سيشكّل إحراجاً كبيراً لحزب الله العالق بين تصريحات أمينه العامّ والواقع المأزوم في السياسة والاقتصاد لعموم لبنان.
فكيف يحفظ الجميع، معارضة وموالاة، في بيروت وتل أبيب على السواء، ماء وجههم وسط خطاب تصعيدي بلغ مستوياته العليا منذ بدء المفاوضات؟
احتمالات أمنية محسوبة عن الحزب وإسرائيل
في الوقائع هناك سباقُ مع تاريخ بدء الاستخراج من حقل كاريش، خصوصاً أنّ إسرائيل أقرّت مراراً أنّها ستبدأ الاستخراج منه “بمعزل عن المفاوضات مع لبنان”، في ظلّ جهوزيّتها وحزب الله لكلّ الاحتمالات الأمنيّة. وهذا ما يرفع منسوب التوتّر في المنطقة مع تقدّم المفاوضات ووصولها إلى منعطفات حاسمة، لكنّ هذا التوتّر ينخفض عند الكلام عن المصلحة المشتركة بين الطرفين في عدم حصول أيّ حرب. فالحسابات الدقيقة اليوم في الغرف المغلقة تحسب إمكانية تدحرج الوضع الأمني، وهذا ما لا يريده أحد حتى هذه الساعة على الرغم من السقوف العالية.
هل هذه السقوف حقيقة أم مزايدات داخلية لكلّ طرف أم مناورة؟ وكيف نجحت إسرائيل في جرّ المفاوضات لمصلحتها بعدما تنازل لبنان عن الخطّ 29 لمصلحة الإسراع في التوقيع؟
إسرائيل تستنزف لبنان
هناك أبعاد عدة لاجتماع مجلس الوزراء المصغّر الإسرائيلي وقراره تأجيل التوقيع. فهو مدرك مدى ضعف موقف لبنان الذي سبق أن تنازل أكثر من مرّة. وبالتالي يقوم بالحسابات المناسبة لمعركة لابيد الانتخابية غير آبه لمسار تطوّر الأحداث مع لبنان. يمضي قدماً في التنقيب في كاريش لأنّ في ذلك مصلحة قومية أوروبية وإسرائيلية على حدّ سواء. فشتاء أوروبا داهم وخزينة إسرائيل على موعد مع تحقيق أرباح هائلة من قطاع الغاز مع استمرار ارتفاع سعره.
تشير مصادر دبلوماسية لـ “أساس” إلى أنّ ما حصل في مسار التفاوض ليس سوى تضييع للوقت لانتزاع إسرائيل المزيد من المكتسبات في ربع الساعة الأخير قبل توقيع الاتفاق. وما رافق الأسبوع الماضي ليس سوى “مواقف جسّ نبض وحفظ ماء الوجه”. فعند إعلان وسائل إعلام محليّة إسرائيلية أنّ لابيد رفض الملاحظات التي قدّمها لبنان على المقترح الأميركي الأخير، سرعان ما توالت الردود من الجهتين. في إسرائيل تأكيد أنّ هذه الأجواء ليست نهائية، وأيّ رفض لأيّ ملاحظة لا يعني رفض المقترح. وفي لبنان تأكيد أنّه جاهز لمزيد من المفاوضات وأنّ “الردّ الإسرائيلي هو لأسباب انتخابية ولحفظ سمعة لابيد بوجه خصمه اللدود بنيامين نتانياهو. وبالتالي لن يؤثّر على الاتفاق”.
تطبيع تحت الماء
في هذا السياق، نشر معهد الأمن القومي الإسرائيلي على موقعه الإلكتروني ما اعتبره مكاسب أمنيّة واقتصادية استراتيجية من توقيع الاتفاق، وأهمّ ما فيها أنّ “توقيع الاتفاق سيعكس تغييراً إيجابياً في صلب وأسس العلاقات بين الدولتين، وقد يكون فاتحة لتغيير مستقبلي في طبيعة العلاقات بينهما (سلام وتطبيع)، وللترويج لدور إسرائيل في معافاة وإنعاش الاقتصاد اللبناني”.
يدرك الجميع أنّ إرساء حالة استقرار طويلة الأمد في المياه الجنوبية يسمح بتنشيط مختلف القطاعات لدى إسرائيل، وخصوصاً على الحدود الشمالية، وأنّ استقرار البحر سينسحب حكماً على البرّ.
تحقيق المصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية هذه يعني أنّ نتانياهو لن يتراجع عن الاتفاق، كما تعهّد سابقاً، في حال رأس الحكومة الإسرائيلية المقبلة. دائماً ما يقود الواقعُ الأمنيّ الإسرائيليّ القرارَ السياسيّ. ولن يتبدّل هذا المفهوم، خصوصاً مع لبنان. الإسرائيليون مهتمّون بتهدئة الوضع مع لبنان، فأيّ شرارة حرب لن تدفع إلى الرحيل الشركات المولجة بالتنقيب في كاريش فحسب، بل وفي كلّ المنصات البحرية قبالة فلسطين المحتلّة. تفهم إسرائيل أنّ حزب الله قادر على زعزعة أمنها الاقتصادي، وأنّ واقع الاعتداءات السابقة على لبنان تبدّل مع دخول الغاز على الخطّ، بفعل الغزو الروسي لأوكرانيا. وربّما تكون المرّة الأولى التي ينخرط فيها المجتمع الدولي بهذه الكثافة في ملفّ لبنان وإسرائيل.
مأزق لبنان
في لبنان وفي ظلال ضجيج الاتفاق بدأت تُطرَح مجموعة جديدة من الأسئلة المتأخرة ومضمونها عما إذا كانت إسرائيل قد بدأت الضخّ من حقلَيْ قانا وكاريش في عام 2020، وعن حصول ذلك قبل أو بعد تشرين الأول، تاريخ إعلان اتفاق الإطار الذي كشف عنه رئيس البرلمان نبيه برّي. فالمعطيات المرافقة لمسار التنقيب تكشف أنّ الإسرائيلي تحرّك في البلوكين 8 و9 في المياه الجنوبية، عبر سلب أجزاء من النفط والغاز اللبنانيين، من دون أيّ ردّ فعل رسمي في بيروت، وهي تحاول اليوم تغطية ما قامت به. هذا بالإضافة إلى معلومات عن مدّ أنابيب لها من ميناء حيفا باتجاه أكثر من خطّ.
لبنان محرج. وحزب الله أكثر إحراجاً. فبعدما تخلّت كلّ القوى السياسية القابضة على السلطة فيه عن الخطّ 29 بحجّة أنّه خطّ تفاوضي، وأنّ المطالبة به ستجعل لبنان وإسرائيل يتشاركان في التنقيب، عاد لبنان ووقع في الفخّ نفسه، لكن هذه المرّة عند الخط 23 وحقل قانا. وضع لبنان ملاحظة على عبارة التعويض لإسرائيل مطالباً بأن يكون ذلك تسوية بين شركة توتال وإسرائيل، منعاً للتصويب عليه من باب التنقيب المشترك في قانا ولو كان تنقيباً مقنّعاً بمخارج لفظية، بالإضافة إلى تسجيله بعض الملاحظات اللغوية الأخرى التي تضمن حقّ لبنان من المقترح. وفي محاولة لاحتواء إمكانية تدحرج الأمور، سارع لبنان الرسمي إلى القول إنّ ملاحظاته “تقنية وليست في جوهر المقترح”.
حتى في ملاحظته المتعلّقة بالشركات التي يحقّ لها التنقيب في مياه لبنان، بدا لبنان مدركاً أنّ الشركات تدخل لبنان وتخرج منه بقرار سياسي دولي وما بيد لبنان حيلة. وما خروج الشركات الروسية من لبنان سوى دليل على التزام موسكو بتوزيع النفوذ على الساحل الممتدّ من سوريا فلبنان إلى إسرائيل بينها وبين الأميركيين، بحيث تكون موسكو على الشاطئ السوري وواشنطن عبر وكلائها وحلفائها على الشاطئ اللبناني.
من جهته كان يعلم حزب الله بكلّ تفاصيل التفاوض، ليس فقط من باب العلم، بل من باب المفاوض أيضاً ولو كان في خطابه “يقف خلف الدولة اللبنانية”. إذ كان دور اللواء عباس إبراهيم التفاوض عن حزب الله مع الموفد الأميركي. الآن، ماذا سيفعل حزب الله في حال تأخّر التوقيع وسط تأكيد إسرائيل إرادتها البدء بالتنقيب في كاريش؟ لا خيارات لدى الحزب. إذ تشير مصادر مطّلعة لـ “أساس” إلى أنّ الحزب يدرس كلّ تفصيل في أيّ عملية أمنية سيقوم بها. هل تستدرج ردّاً إسرائيلياً؟ ماذا سيكون الردّ؟ هل يستطيع الحزب أن يقوم بردّ على الردّ؟ هل يستطيع تحمّل تبعات تدحرج الوضع الأمني؟ حتماً لا. هو جواب يعرفه الحزب جيّداً، وبالتالي هو عالق كالدولة اللبنانية في عنق الزجاجة.
في الواقع يوجد لدى حزب الله حسابات عدّة يضعها على طاولته حول ملف الترسيم. بداية سيخفّف الاتفاق من إمكانية حصول أيّ توتّرات أمنيّة مع إسرائيل، وهو ما سيعني عمليّاً أنّ عدوان تموز 2006 كان الأخير في المواجهات بين الطرفين.
يتصرّف حزب الله ببراغماتية مع كلّ التطوّرات الراهنة، وتحديداً في موضوع لبننته، عبر الانخراط التدريجي في بنية الدولة وفق شروط محدّدة، وطرحه الاستراتيجية الدفاعية، فضلاً عن ترك باب المناورة مفتوحاً حيال الانتخابات الرئاسية.
يعلم حزب الله أنّه سيكون في النهاية جزءاً من حراك سياسي لبناني. فبيئة الحزب، كما كلّ اللبنانيين، تعاني من إفرازات أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد.
ليس هذا السياق منفصلاً عن تبدّلات تحصل في إيران يتابعها الحزب بدقّة. لا يعني ذلك سقوط النظام هناك، لكنّه سيحاول في الحدّ الأدنى ترميم علاقاته مع الفئات المحتجّة ضدّه، خصوصاً تلك التي رفعت شعار “لا غزّة لا لبنان روحي فداء لإيران”. وفي ظلّ العقوبات الغربية، وخصوصاً الأميركية، على إيران، وتأثيرها على الواقع المعيشي هناك، يراقب المعنيون تأثير ذلك على طهران وإمكانية تخفيفها أو تجميدها أيّ مساعدة لحلفائها في المنطقة حتى إشعار آخر، أي حتى توقيع اتفاق نووي جديد.
مصلحة مشتركة
يقود كلّ ما سبق المتابعين لهذا الملف إلى القول إنّه على الرغم من التصعيد تبقى لإسرائيل ولبنان مصلحة مشتركة في توقيع الاتفاق. فهو لن يكون سوى ترسيخ لاستقرار يدوم أعواماً طويلة، وهو ليس سوى تأطير للأدوار الأمنيّة وتقليص للاحتمالات العسكرية، إذا لم نقُل إلغاءها بالكامل. وعلى الرغم من ارتفاع قرع طبول الحرب والمواجهة حالياً، تتوجّه بعض المصادر الدبلوماسية المتابعة إلى القول إنّ الاتفاق حاصل ويبقى تحديد توقيت توقيعه قريباً.