“مفاوضات” بمعيار ربطة خبز
حتى السخرية المريرة لا تجدي نفعاً في تنفيس غضب اللبنانيين وهم يعاينون فصول المهزلة الأشد هبوطا في المشهد السياسي، الرسمي والنيابي، التي تتوالى مجرياتها هذه الأيام تحديدا. في بلد باتت ذروة طموح المواطن فيه ان “يظفر” في نهاية ساعات اصطفافه الطويل في الطوابير بربطة خبز فحسب، ترانا نتساءل: أي صنف من صنوف الساسة والمسؤولين هم هؤلاء الذين لا يزالون يقيمون على الكراسي والمواقع والمسؤوليات، واي نواب واي ساسة هم أولئك الذين لا يزالون يظنون انهم يملكون مشروعية التلاعب والتوظيف السياسي الحقير في مصالحهم الدنيئة؟ ما يشهده لبنان في زمن الانتقال الى الاستحقاق الرئاسي مخيف جدا، ليس بمعيار مَن سيخلف رمز هذا العهد المجيد المظفر فحسب، بل أولا وأخيرا بمعيار تعميم شمولي لصورة بلد باتت القبلية بكل جاهليتها وعصبياتها وهبوطها المعنوي والأخلاقي والمبدئي سمته القاتلة
تحلّ الاستحقاقات والمصادفات المتزامنة متراكمة ومتدافعة على لبنان كأنها المصائب بالجملة وسط الخوف المتعاظم من ان يودي هذا الطاقم السياسي الذي حظيَ قبل شهرين فقط بمشروعية التجديد في الانتخابات النيابية الاخيرة ببقايا البقايا لإمكانات الخروج من الكارثة. يضرب الواقع الرسمي والحكومي والنيابي زلزال الهبوط والتفكك والتلاشي على صورة اين منها أسوأ ما عرفته دول العالم الثالث التي شهدت مجاعات على ايدي طغاة وديكتاتوريين وفاسدين. هذه “الدولة” التي تجري في ظلها الآن تصفية آخر رمق في قدرة الناس على الصمود تذهب الى التفاوض على الترسيم البحري مع إسرائيل والى مواجهة التداعيات المتفاقمة للازمات الاجتماعية والمالية والاقتصادية الآخذة في التضخم والتفجّر بدليل الفشل المثبت المتكرر في انهاء اضراب مزمن لموظفي القطاع العام شلّ كل الإدارات منذ شهرين. كما ستذهب هذه الدولة الى التزام المضي في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وهي بالكاد مررت مشروع السرية المصرفية مشوّها وبقيت تحجب كل المشاريع الأساسية الأخرى المطلوبة من صندوق النقد الذي صار الممثل الحصري للمجتمع الدولي في تعامله مع كارثة الانهيار اللبناني، وعجزت دولة لبنان عجزا فاضحا حتى الساعة عن الإيفاء بأي التزام تعهدته منذ أيام حلول ايمانويل ماكرون في بيروت قبل عامين تماما
هذه الدولة التي استفحل عليها ان تمنع تهريب المحروقات والخبز والطحين والدواء، ولن نغامر ابعد في اثارة أي ملف “استراتيجي” آخر، سوف “تشرف” في قابل الأيام على مفاوضات مصيرية في شأن الترسيم البحري مع الوسيط الأميركي ومن خلاله مع إسرائيل فيما الداخل النيابي والسياسي فيها يلهو بجاهلية نواب متنمّرين على نائبات وفيما باتت ملهاة التساجل بين بعبدا والسرايا نغمة مملّة رتيبة، وفيما لا يجرؤ “ابن دولة” على الرد الواضح والصريح على عرض فاقد الصلاحية ومكشوف الأهداف التوريطية للبنان للسيد نصرالله باستقدام الفيول الإيراني المردود والمعاقب عليه دوليا. هذه الدولة إياها التي تبلغ ذروة تخبطها وعجزها وقصورها وفسادها وانهيارها بمثل ما تسببت للبنان في السنوات الثلاث الأخيرة من العهد الميمون بانهياره الكارثي تفتح الباب على غاربه للسيد نصرالله في الإمساك بقرار التفاوض والقبول والرفض في الترسيم، وتاليا “إبقاء” قرار الحرب والسلم بين يديه ظاهرا وشكلا بطبيعة الحال لآن القرار الاستراتيجي في هذه الحال هو لدى مَن يرتبط “حزب الله” بقرارهم في طهران. كيف تريدون من السيد نصرالله إذاً “التواضع” وعدم استباق المفاوضات واختزال هذه الدولة ما دامت لا تقوى على كارتيلات احتكار الخبز؟