بعضٌ من الرؤية الضمنيّة لـ”حزب الله” إلى ما بعد الانتخابات
قبل نحو شهر تقريبا طوى “حزب الله” صفحة الانتخابات النيابية المفرودة على طاولته وما تتضمنه من حسابات واحتمالاتها العليا والدنيا والمتوسطة، وبادر الى فتح صفحة جديدة أشمل وأعمق هي صفحة ما بعد يوم الانتخابات وما ستفرضه نتائج صناديق الاقتراع من معادلات تشير كل الدلائل الى انها ستكون مختلفة بدرجة كبرى عن مرحلة ما قبل هذا الاستحقاق المفصلي.
وصار معلوما ان “حزب الله” بعث في الآونة الاخيرة بأكثر من رسالة صريحة على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله واكثر من مسؤول من مسؤولي الصف الاول في الحزب، فحواها انه يتجه الى أداء مختلف عنوانه العريض دخولٌ اكبر الى السلطة والحكم توطئة لدور أفعل في القرار الوطني.
هذا الكلام النوعي الجديد هو عند الذين يقدَّر لهم ان يطّلعوا على ما يدور في الحزب، يستنتجون انه ليس شعارا انتخابيا سينتهي ويتبدد بعد إقفال صناديق الاقتراع، بل هو ترجمة حقيقية لما يعتمل لدى الحزب من تصورات وخطط عملانية للمرحلة القريبة المقبلة، انطلاقا من الوقائع والمعطيات الآتية:
– ان “حزب الله” والمحور السياسي الذي يتفاعل معه لا يمكنه البقاء في الصفوف الخلفية، وجُلّ ما يفعله ممارسة “اللعن” على مدار الساعة للفساد والاعوجاج الفارض نفسه امرا واقعا عنيدا، يفعل ويترك كما يحلو له، مطمئنا الى ان لا أحد يقدر على مناطحته، ويخصص الحزب أحد نوابه لمهمة واحدة هي التلويح ليل نهار بملفات يقول انها تحتوي على وثائق تفضح الفاسدين وتكشف مَن يغطيهم ماضيا وحاضرا. فهذا النوع من الخطابات، يعلم الحزب علم اليقين انه لم يعد جاذبا عند جمهوره.
ولم يكن امرا عابرا ان سيد الحزب يضع كل ثقله ورصيده المعنوي والمادي وهو يكثف اطلالاته الاعلامية ويحرّض فيها جمهوره على التوجه بكثافة الى اقلام الاقتراع بغية ضمان رفع الحاصل وتقديم البرهان الحسّي على ان الحزب الذي تعرّض في العامين الماضيين لعصف من الاعداء، مازال محافظا على جذوره في بيئة متماسكة.
وهذا الفعل التعبوي، لم يكن على هذا المستوى العالي إلا بعدما استشعر الحزب ان القاعدة التي اعتادت الطاعة العمياء عندما يأتيها الامر والتكليف الشرعي، قد أصيبت بالتراخي وبقلّة الحماسة قياسا بالسابق. وعليه، فان الحزب بات مقيما على يقين من ان الامور بعد حراك 17 تشرين الأول عام 2019 وما تداعى عنها من تطورات دراماتيكية وانهيارات مالية وأزمات اقتصادية، وضعت الحزب امام واقع صعب يفرض اداء مختلفا وادارة جديدة. ولاريب ان هذا الواقع يزداد صعوبة اذا ما قُرن بهجمة مروحة الخصوم على الحزب، وانهم نجحوا في رفع منسوب الاعتراض على واقع كان مريحا بالنسبة اليه، ويتجلى ذلك في ارتفاع اصوات الداعين الى الحياد والرافضين للسلاح وسوى ذلك.
انطلاقا من كل هذا، يتضح ان الحزب يستعد جديا لمرحلة اخرى مختلفة، خصوصا بعدما اعلن مرارا انه ليس في وارد التراجع والانكفاء والتخلي عن مقاومته، وهذا يعني ان على الحزب الإقدام والاقتحام. ومن هنا كان الكلام الجديد في الاطلالتين الاخيرتين للسيد نصرالله.
واذا كان ذلك قد صار في حكم الثابت، فان السؤال التالي هو: كيف وبأي شكل ستتمظهر الامور؟
يقارب الحزب التحولات من خلال ثلاث وقائع، بعضها صار واقعا وبعضها الآخر ما انفك طيّ حسابات الاحتمالات، وهي:
– النتائج التي ستفرزها الانتخابات المرتقبة، والاحتمال الابرز عند الحزب انها ستؤمن “اكثرية مريحة” يحصل خلالها هو وحلفاؤه على ما لا يقل عن عشرة نواب سنّة وثلاثة دروز وعلى اكثرية مسيحية، مضافا اليها الحصة الشيعية كاملة (27 نائبا). هذه المعادلة وفي انتظار ثبوت صحتها من عدمها تعني ان الحزب صار أمام احتمالين لا ثالث لهما:
الاول ان الآخرين من خصومه سيعيدون النظر بحساباتهم ويعترفون بالنتائج والامر الواقع ثم يجنحون نحو التفاوض معه على كل الامور والملفات، وهذا الامر إن حصل سينتج عنه تفاهم داخلي جديد على غرار “تفاهم الدوحة” عام 2008، وهو تفاهم يعد باجراءات وتدابير على المستوى الداخلي من شأنها ان تساهم في وضع حد للأزمة الاجتماعية والمالية الحاصلة.
أما الاحتمال الثاني فينطلق من فرضية ان الآخرين سيمضون قدماً في ممارسة ضغوطهم على الساحة اللبنانية. وهنا سيكون الحزب وحلفاؤه محكومين بالذهاب الى حكومة اكثرية من دون تردد هذه المرة، لان لديهم السند الشرعي والميثاقي والدستوري. وستأخذ مثل هذه الحكومة خيار الذهاب نحو الشرق وسيعاد الاعتبار الى العروض الروسية والايرانية والصينية والعراقية وسواها. وعندئذ سيجد الرافعون لشعار الخشية من سعي حثيث لإلباس الكيان اللبناني هوية مختلفة وصورة مغايرة أنفسهم محقّين.
يعي الحزب ضمناً ان الدخول في غمار هذا الخيار دونه معارضة شرسة، اذ ان “حراس الصيغة” وهيكل النظام التاريخي منذ نحو 70 عاما ما زالوا حاضرين، وهم متمسكون بنظريات الارتباط العضوي بالغرب ويعتبرون انفسهم الدولة العميقة. ويعي الحزب ايضا ان هؤلاء تحسّسوا باكرا ان ثمة من يتربص ويستهدف واقعا يعدّون انفسهم قيّمين عليه. ومع هذا الاقرار من جانب الحزب ومحوره فانه في الضمن يضع في حساباته ايضا ان الذين شحذوا هممهم للاعتراض والمواجهة باتت خياراتهم ضعيفة واسلحتهم متواضعة بعدما تهاوت بين ايديهم حجارة الصيغة وجدران التركيبة التي عليها يعولون ومن اجلها يسهرون، خصوصا انهم بلا استثناء اقروا بان هذه الصيغة اصبحت عقيمة وعاجزة عن تطوير نفسها وتخطي ازمتها وباتت قاصرة عن التكيّف مع التحولات والمستجدات العميقة. لذا فانه يتوقع ان يجنح هؤلاء في لحظة معيّنة الى فتح قنوات التفاوض معه ومع حلفائه للتفاهم على صيغة حل مرحلية على غرار ما سبق من المحطات التسووية العديدة، او التخلي عن كل الهواجس السابقة والرهانات الماضية والجنوح نحو تسوية عميقة تظللها تسويات خارجية.
ويرى الحزب ان الاحتمال الثالث، وهو ان يغامر البعض ويأخذ البلاد نحو حال احتراب اهلي، أمر صعب يقارب الاستحالة.
وفي كل الاحوال، فان “حزب الله” يتعامل بجدية مع نظرية انه ما بعد الانتخابات مضطر الى ان يقدّم اداء آخر في شؤون الحكم والادارة. وهو على قناعة من خلال التجارب بانه إما ان ينخرط جديا في موجبات هذا الخيار، أو يقبل بان يوقّع وثيقة إعدامه سياسيا، وفي المبدأ لا أحد يلغي نفسه.
ومبتدأ الخبر ومنطلقه هو النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع بعد نحو 72 ساعة.