معركة الساحتين المسيحية والسنّية على وجه لبنان… “حزب الله” و”العوني”: الأكثرية أو التعطيل والفراغ!
حدثت تغيرات مهمّة في المشهد السياسي اللبناني بالتزامن مع تحضيرات القوى السياسية والطائفية لخوض المعركة الانتخابية. فبعد سقف الخطاب المرتفع لـ”حزب الله” بالتخوين والعمالة والاتهامات بالتدخلات الأميركية والسعودية لقلب النتائج، ارتفعت في المقابل أصوات سياسية على المقلب الآخر أظهرت أن المعارك بدأت تستعر بين محورين حتى 15 أيار يوم الانتخابات، فتقدّم وليد جنبلاط في خطابه لمنع “مصادرة القرار الوطني اللبناني المستقلّ لصالحِ محور الممانعة والتزوير في كل موقعٍ من الجبل إلى الجنوب مروراً بالإقليم وبيروت”، محذراً من اغتيال جديد عبرَ الانتخابات وداعياً لرد “الهجمة سويّاً وذلكَ عبرَ صناديقِ الاقتراع لمنعِ الاختراق ومنعِ التطويعِ والتبعيّة”.
وإلى جنبلاط كان اللافت عودة التحشيد في الساحة السنية بكلام لرئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي رفع شعاراً جديداً “منع حزب الله من تحقيق الأكثرية”، بعدما كان يطمح إلى تحقيق الثلث المعطّل.
تتركز المعركة في الساحتين المسيحية والسنّية، وإن كان الجبل يشكل عصب المواجهة بالنسبة إلى جنبلاط، وذلك لمنع محور الممانعة الذي يقوده “حزب الله” من إعطاء التيّار العوني أكثرية مريحة، تسمح له بالتحكم بمفاصل القرار واستخدامه في المرحلة المقبلة. لكن العين على البيئة السنّية التي تعاني من تشتّت وفوضى بعد مقاطعة سعد الحريري للانتخابات وانسحابه من الحياة السياسية، إذ إن المعركة تحتدم لنيل أكبر عدد من المقاعد بين ما بات يُعرف بمحوري الممانعة والسيادة، وهذا الأخير غير مكتمل، فيما القوى التغييرية من مجتمع مدني ومجموعات الانتفاضة وأحزاب معارضة لم تتمكن من توحيد لوائحها، ولذا يبدو أنها لن تسجل خروقاً كبيرة في الانتخابات.
بالتوازي مع الصراع على البيئة السنّية وساحاتها وفي الجبل، تدور المواجهة الكبرى في الساحة المسيحية، التي يعتبرها البعض تحدّد وجه لبنان. لكن هذه المعركة ليست مسيحية – مسيحية صرفة، بل تخوضها القوى الطائفية الاخرى وبيئاتها لحسم النتائج ونيل الاكثرية. وتدور بين التيار العوني والقوات اللبنانية في شكل رئيسي، فيما تسعى أطراف أخرى إلى التميّز خصوصاً حزب الكتائب وتيارات أخرى وعدد من المستقلين. وتستعر المعركة في هذه الساحة المتنوّعة، فقد تمكن “حزب الله” من جمع “المردة” والعونيين، وهو يعمل على التعبئة الشيعية لدعم مرشّحي التيار الوطني فيما تسعى القوات اللبنانية لأكثرية مسيحية بالتحالف مع الحزب التقدمي الاشتراكي وبعض الشخصيات السنية وأقله لمنع هيمنة الممانعة.
الصورة السياسية في الساحة المسيحية لها امتدادات دولية أيضاً. يركز “حزب الله” على دعم التيار العوني من خلفية موقعه الإيراني، إذ إن نتائج الانتخابات في هذه الساحة ستحدّد طبيعة الهيمنة وحساباتها الإقليمية، وبالتالي يحشد في البيئات الطائفية لتحصيل أكبر عدد من المقاعد. وفي المقابل ظهر اهتمام سعودي متجدّد بالوضع اللبناني دعماً للوائح “السيادية” وإن لم يكن بطريقة الدعم المباشر الإيراني لـ”حزب الله”.
وهذا الاصطفاف بين المحورين وإن كان يقوم على الصراع بين وجهتين متناقضتين حول هوية لبنان، فإن سماته ملتبسة وفق سياسي لبناني متابع، فالمعركة ليست واضحة بين طرف مسيحي يؤيّد العرب والغرب وبين طرف مسيحي آخر وجهته “أقلوية” مختلفة، لكن هذا الأخير المتحالف مع “حزب الله” ويغطّي مشروعه أسهم في نزع انتماء لبنان العربي وأدّت سياساته حتى من موقع رئاسة الجمهورية الى خصومات كثيرة مع العرب والخليجيين وأيضاً مع فئات لبنانية، وانحاز إلى النظام السوري حتى النهاية.
الحلقة الناقصة أو المفقودة في المحور الذي يؤيّد العرب، هي البيئة السنّية المشتتة والعاجزة عن تشكيل عصب في المعركة، لذا تتقاسمها القوى المتصارعة لتجيير أصوات ناخبيها في غياب مرجعية قادرة على الاستقطاب، وهذه نقطة ضعف أساسية وفق السياسي اللبناني، وثغرة في معركة الطرف الذي يرفع شعار التواصل مع المجتمعين الدولي والعربي، في مقابل الطرف الممانع الذي تمكّن من تنظيم قوته على أنقاض البلد والانهيار والتفكّك، بعد حكم التحالف المستمرّ مع وصول ميشال عون الى الرئاسة في 2016 حيث انهارت المؤسسات لمصلحة قوى الأمر الواقع، وهذا المحور يتهم المجتمعين الدولي والعربي بالتدخل المباشر والتمويل والحصار المتواصل للبنان، وهو كلام يمكن أن تكون له تداعيات على توجهات الناخبين خصوصاً في البيئة السنية.
وعلى الرغم من احتدام المعارك السياسية والانتخابية، لا دلائل تشير إلى أن هناك تغييراً كبيراً سيحدث، ولا انقلاباً ضد التيار العوني، فالوقائع اللبنانية لا تعكس اتجاهاً تغييرياً شاملاً في ظل الانقسام السياسي والطائفي، بل في تغيير التوازنات، والقوى التي تواجه “حزب الله” غير قادرة على تحقيق أكثرية كما حدث في 2009، وأقصى ما تطمح إليه هو منع محور الممانعة من حصد الأكثرية على الرغم من الانهيار الذي يتحمّل مسؤوليته العهد بالدرجة الاولى، لكن أيضاً كل القوى التي شاركت في الحكم طوال عقدين. وما دامت البيئة السنية مفككة، فلن يكون في إمكان المحور السيادي انتزاع أكثرية، في الوقت الذي يعمل فيه “حزب الله” بفائض قوّته لدعم حلفائه المسيحيين لتثبيت شرعية العهد العوني وتياره السياسي وأيضاً لإحداث اختراقات في الساحة السنية لاستخدامها لاحقاً.
ستستعر المعارك السياسية والانتخابية خلال هذا الأسبوع أي قبل إنجاز الاستحقاق في 15 الجاري، إذ يسعى “حزب الله” ومعه التيار العوني إلى القتال لنيل الأكثرية، باستخدام كل فائض القوة واختراق كل المناطق. استحقاقات المرحلة المقبلة مهمة وأساسية في وضع إقليمي ودولي غير مؤاتٍ، بعد تراجع الرهانات على توقيع الاتفاق النووي.
التركيز سيكون على الحكومة المقبلة، والمتوقع أن نشهد صراعاً مفتوحاً يترك لبنان في الفراغ وتصريف الأعمال حتى استحقاق الرئاسة. ولذا تشكل معركة الحصول على الأكثرية عنواناً للعبور والتحكم بمفاصل البلد لاحقاً وأيضاً في صيغته وتركيبته وتحسين شروط التفاوض على مستقبله ونظامه.
وبناءً على ذلك لا يستبعد السياسي أن يؤدّي أي تغيير في الهيمنة القائمة اليوم إلى تعطيل نتائج الانتخابات وليس عملية الاقتراع، إذا تبيّن أن هناك خسائر للممانعة أو تسونامي قلب التوازنات، وهذا الأمر يدفع البعض الى تقديم طعون للمجلس الدستوري قد توقف إعلان النتائج أو افتعال مشكلات خلال عمليات الاقتراع لتعطيل الإقبال. وفي كل حال، هناك من يريد الإمساك بالبلد، إما بقوة الأمر الواقع أو بطريقة انتزاع أكثرية تعطل المؤسسات ساعة تريد، فيما الانهيار يقضي على ما بقي من معالم لبنان التاريخية.