اتفاق مبدئي مع “الصندوق” ببُعد سياسي؟!
لا تعتقد مصادر مالية ان اتفاقا مبدئيا مع صندوق النقد الدولي يتم توقيعه في بيروت قبل مغادرة الوفد العاصمة اللبنانية، هو الجواب على مسار انقاذي بدأ لبنان انتهاجه، ولا ان هناك موافقة من الصندوق على “خطة التعافي” التي لم تُعرض بعد، او بالأحرى لم تنتهِ بعد، فيما تعجز الحكومة عن الكشف عنها إذا ما ذلك حصل قبل الانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل.
لا بل تخشى هذه المصادر ان حصول ذلك سيكون مرتبطا بقوة بضغوط خارجية يُعتقد انها فرنسية في الدرجة الاولى من اجل إعطاء الحكومة اللبنانية ورئيسها تحديدا مكسبا سياسيا لا بد منه في هذه المرحلة قياسا الى مرحلة ملتبسة وقد تكون صعبة جدا في المرحلة التالية للانتخابات النيابية. ففي الشكل ان توقيع الاتفاق المبدئي بعناوين عريضة ليس الجواب المؤكد فعلا للخطوات التي سينفّذها لبنان ما دامت حكومته لم تنجز بعد “خطة التعافي” على رغم شماتة البعض بان حكومة حسان دياب قد انجزتها خلال أربعين يوما ولقيت استحسانا من الصندوق، بينما الحكومة الحالية اضاعت أربعة اشهر على خطة لم تبصر النور ولن تُعلن في حال حصول ذلك خوفا من ردود الفعل الشعبية، علما ان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بذل جهدا من اجل ان يتم إقرار “الكابيتال كونترول” مثلا اثناء وجود وفد الصندوق في لبنان، او ان يجري إقرار الموازنة قبل وصوله كدليل على حسن النية، وهذا لم يتحقق.
تشتري السلطة لنفسها وقتا قبل الانتخابات ولا تخاطر بأي تدبير قد يهدد زعماءها المرشحين او حتى الفرص المستقبلية للبعض الآخر. لكن ما سيلي الانتخابات عملانيا هو حكومة لتصريف الاعمال لا يعتقد احد في أي لحظة بقدرتها على ان تتخذ القرارات المطلوبة ولن يفاوضها صندوق النقد لهذا السبب، فيما ان هناك صدقية مفقودة إزاء الاقتناع بان حكومة جديدة قد تكون متاحة في المدة الفاصلة ما بين الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية التي يجب ان تجرى قبل موعد 31 تشرين الاول المقبل تاريخ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
وعدم الاقتناع مرتبط بتلمّس استمرار حال الانكار لدى اهل السلطة في لبنان تماما على النحو الذي سيطرت عليهم بعد اشهر قليلة على انتفاضة 17 تشرين الاول 2019 التي اخافتهم فعلا. لكن حال الانكار لا تزال موجودة في ظل عدم الاقتناع بان أموال الناس قد اندثرت، او وجوب اتخاذ إجراءات إصلاحية جدية وذلك تفاديا لإقرار اهل السلطة بمسؤوليتهم عن الوصول بالبلد الى الانهيار بسبب الفساد والهدر وسوء الإدارة السياسية والمالية، والتي تقع تبعتها في الدرجة الاولى على الطبقة السياسية الحاكمة اكثر وقبل أي طرف آخر، على رغم وجود مسؤولية لآخرين اكان مصرف لبنان أم القطاع المصرفي عموما.
وتوقيع اتفاق مبدئي مع الصندوق راهنا يصب في خانة سياسية اكثر منه في خانة عملانية، لان لبنان سيدخل بعد الانتخابات النيابية وفي حال أجريت الانتخابات الرئاسية في موعدها قياسا الى مدى التأثر بالتطورات الإقليمية كذلك، في دائرة إعادة تكوين السلطة التي قد تحتاج الى اشهر إضافية بعد الانتخابات الرئاسية من اجل تأليف حكومة جديدة يرجح ان تمدد لغياب السلطة التنفيذية لسنة من الآن على الأقل. ولن يضمن احد حتى ذلك الوقت حصول متغيرات تفرض معطيات جديدة على خطة الانقاذ، وتاليا لبدء تنفيذ خطوات إصلاحية على افتراض ان “خطة التعافي” تكون قد انتهت، الامر الذي يُخشى معه ان يُترك لبنان في مهب وضع في غاية الصعوبة.
فالانتخابات النيابية التي دفع المجتمع الدولي بقوة من اجل اجرائها في موعدها على خلفية ان تحمل التغيير المطلوب الذي عبّر عنه شباب انتفاضة 17 تشرين الاول 2019 وتاليا إحداث تغيير في الطبقة السياسية التي اتهمها رؤساء دول بالفساد وفقدوا الثقة بها، من المرجح ان تصيب هذا المجتمع بالاحباط. ذلك ان الفكرة التي سادت ما بعد الانتفاضة هي ان النظام الاقتصادي في لبنان قد انتهى ولا بد من نظام بديل، فيما النظام السياسي لا يمكنه الاستمرار على ما هو وانه لا بد من ان يصار الى تطويره او تعديله. ويمكن تلمّس هذا الكلام في مواقف الكثير من السياسيين الذين اقتبسوا ما حملته تقويمات ديبلوماسيين يزورون لبنان للمساعدة او إعطاء المشورة والدعم، وقد انطلق البعض في اسباغ طابعه او مطالبه الشخصية والسياسية على هذا الاتجاه اظهارا استباقيا بوعي مشكلة البلد، في حين انهم يكررون ما تلمّسه الخارج وسارعوا الى تبنّيه بطريقة او باخرى واسقطوا عليه نظرتهم.
والسؤال المهم في هذا السياق هو: اذا كان المجتمع الدولي الذي راهن على التغيير ودعمه، والذي سيحبطه إعادة قوى السلطة تثبيت نفسها عبر الانتخابات النيابية، علما انه كان عليه التنبه من قانون هجين وُضع من اجل مصالح القوى السياسية واستنساخ نفسها، سيترك لبنان لمصيره نتيجة يأسه منه بحيث تقتصر مساعداته له في المرحلة المقبلة على الدعم الإنساني الغذائي ليس إلا وفق ما سمعت هذه المصادر المالية من زوار لبنان في أوقات مختلفة، اذ ان عودة القوى السياسية نفسها بما تعنيه من استمرار السياسات نفسها، وتاليا غياب “خطة التعافي” والإجراءات الإصلاحية، ستكون وصفة كافية للخشية الى حد كبير مما ستحمله المرحلة المقبلة على لبنان.
ذلك ان النظام السياسي المرتقب تعديله او تطويره سيخضع لمعايير القوى المسيطرة ما سيفقده الزخم المراد منه ان ينقل لبنان الى زمن آخر غير ذاك الذي ساد ابان الحرب وما بعدها. وثمة من يرى في المرحلة الانتقالية التي تم تشجيعها عبر دعم رئاسة ميقاتي للحكومة اقرارا غربيا بان التغيير لن يكون ممكنا على نحو كلّي ولا بد من مساومات. ولكن حتى الآن الصورة قاتمة اكثر منها ضبابية وفقا للمعطيات الراهنة، وهناك مخاوف كبيرة بناء على التوقعات المذكورة وأخرى غيرها بان لبنان قد يكون مقبلا على انهيار اكبر واعمق من الذي شهده حتى الآن، اذ تكرر المصادر نفسها ان اهل السلطة يعيشون حال انكار كلّي وشامل.