لو تمّت الصفقة…
لم يكتفِ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالإعلان عن رفضه الصفقة الفضيحة على إقالة المحقق العدلي بجريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وإقالة كبار القضاة بدءاً من رئيس مجلس القضاء القاضي سهيل عبود ومدعي عام التمييز غسان عويدات والمدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، ورئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي فادي الياس، مقابل صدور قرار عن المجلس الدستوري بقبول الطعن بالتعديل الذي أقره مجلس النواب إلغاء الدائرة 16 لست نواب في بلاد الانتشار…
بعد ارفضاض اجتماعه مع رئيس البرلمان نبيه بري وإعلانه “نحن غير معنيين” بالصفقة، أجرى رئيس الحكومة اتصالاً برئيس الجمهورية العماد ميشال عون وسأله فيه: كيف توافق على هذه الصفقة فخامة الرئيس في وقت كنا نقول إننا لا نتدخل في عمل القضاء واستقلاليته؟ حاول رئيس الجمهورية تبرير ذلك بالقول لميقاتي إني حين طرحت عليك أن نقيل القضاة كنت وافقت معي على ذلك. لكن ميقاتي ذكّره بأن موقفه كان عندما طرح عون الفكرة عليه أن “كل شيء بوقته… ولم يكن ذلك يعني الموافقة عليها”. ردد ميقاتي على مسمع عون ما سبق أن قاله أثناء اجتماعه مع بري بأن “أي مؤسسات ستمشي إذا قمنا بهذه الخطوة وأي استقلالية للقضاء وفصل السلطات هذا الذي سيكون في هذه الحال؟ وماذا سيقول عنا العالم الذي يطالبنا بالشفافية في التحقيق واستقلاليته ويصر علينا أن نحقق الإصلاحات ووقف التدخلات في القضاء، وينتظر منا اعتماد النزاهة في عمل المؤسسات؟…”.
وجد ميقاتي أن عناصر الصفقة ليست تدخلاً في عمل القضاء فحسب، بل هي تدخل فاضح في عمل مجلس الوزراء والمجلس الدستوري أثناء دراسته للطعن المقدم بتعديلات قانون الانتخاب، والذي لم يكن قد صدر بعد، أول من أمس.
تقول الرواية إن قصة الصفقة الفضيحة سبق أن طرحت على الرئيس بري قبل أكثر من خمسة أسابيع، ورفضها، بعدما جاءه مرسال من طرف قيادة “التيار الوطني الحر” يعرضها عليه. وهذا المرسال كرر العرض ثلاث مرات لكن رئيس البرلمان لم يستسغ الفكرة، فعاد من اقترحها وسعى للترويج لها عن طريق الوسيط الجدي بينه وبين بري، أي “حزب الله”، الذي عمل على تحقيقها في الأيام الأخيرة، على رغم أن بري لم يكن متحمساً لها. فـ”التيار الحر” يريد تقليص صلاحيات البيطار عن طريق القضاء في حال تغيير كبار القضاة، بدلاً من المخرج الذي طرحه بري ويقضي بالتصويت في المجلس النيابي على فصل قضية ملاحقة الوزراء والنواب في تحقيقات المرفأ عن سائر التحقيقات التي يجريها القاضي البيطار.
لم يكن عن عبث قول بري لـ”النهار” إنه “ثبت أن لا أساس لكل هذا السيناريو، الذي جرى تركيبه ولم أشارك فيه في الأصل… ولست من يشارك في صفقة على حساب موقع رئيس الحكومة”. وهو كلام يسمح بالاستنتاج بأن بري لم يكن منزعجاً من رفض ميقاتي لأنه بذلك يغنيه هو عن اتخاذ موقف ضدها…
لو سلكت الصفقة طريقها إلى النور لكانت فضيحة أمام أعين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي كرر مطلب المجتمع الدولي بأن تحصل “محاسبة عادلة” حول انفجار المرفأ، وأن “على القادة اللبنانيين أن يستحقوا شعبهم”. في كل الأحوال هو شهد على أن بعض المسؤولين لا يستحقون هذا الشعب. فالصفقة كانت تعني تحديد ما سيكون عليه قرار المجلس الدستوري قبل صدوره، ما يعني الانكشاف الكامل لتأثير القوى السياسية في قضاته…
لو تمت الصفقة، فضلاً عن عيوبها المبدئية والسياسية، فإن ثغرات عديدة تدفع إلى استغرابها. فقبول استبدال رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود من أجل تعيين غيره موالٍ للفريق الرئاسي سيزيد النقمة المسيحية على قادة “التيار”. وقبع القاضي البيطار بهذه الطريقة، كان ليؤكد أمام الرأي العام المسيحي أن لا صحة لزعم “التيار” حرصه على التحقيق، لأنه كان ليؤدي إلى تطييره وتطيير التحقيق معه أيضاً. وإذا كان المكسب هو أيضاً بتغيير القاضيين عويدات وابراهيم، فإن البديلين كانا ليتم تعيينهما من المرجعيتين الشيعية والسنية، فيما لم تكن هناك من ضمانات على الاتفاق على التعيينات القضائية، وعدم ربطها بتعيينات أخرى يسعى إليها “التيار” لأسباب انتخابية. أي لكان الأمر انتقل من السعي إلى إنهاء “الاستنسابية” التي اتهم “التيار” البيطار بممارستها، إلى العودة الفاضحة إلى المحاصصة التي باتت صفة لصيقة بممارسات “التيار” وسط الرأي العام المسيحي، فضلاً عن رصد المجتمع الدولي ومراقبته لإجراء تعيينات إدارية في مراكز حساسة تتسم بالكفاءة والنزاهة، لا بالولاء السياسي.