«الجامعة اللبنانية» تُعانِدُ الجلوسَ على مَقاعد الانهيار
الجامعة اللبنانية (الرسمية) ليست مجرد صرح تربوي عِلْمي راسخ.. هي حاضنة وطنية في المفهوم العام.. على مَقاعدها وفي قاعاتها وعلى أرصفتها وفي أروقتها ترعرع جزءٌ من الذاكرة اللبنانية الجَمْعية.. فأبوابُها كانت دائماً مفتوحةً لـ «الجمْع لا للقِسْمة»، وغالباً ما صنع طلابُها أحداثاً وتحولاتٍ يوم كانت الحركة الطالبية طليعيةً في الدفْع نحو التغيير.
والجامعة اللبنانية كـ «دولتها» ليست على ما يرام.. تُلاطِمُ الأزمات الهائلة وتُعانِدُ السقوط.
تُكافِحُ باللحم الحيّ، أساتذة وموظفين وإدارة، كأنها تجترح المستحيلَ للبقاء منصةً متقدمةً للعلم والتربية في بلادٍ تُقتاد يومياً إلى الوراء.. إلى الحضيض.
ولم يكن قرار رفْع رسوم التسجيل مع بداية السنة الدراسية 2023 – 2024 سوى «الشرّ الذي لا بد منه» لضمان ديمومةِ جامعة الـ77 فرعاً وعشرات آلاف الطلاب الذين لم تَرُقْ لهم هذه الزيادة.
فالقرار أثار موجةَ غضبٍ عند الطلاب الغارقين بدورهم في الفقر والعسر المادي، فكانت رد الفعل الأوّل رفْض هذه الزيادة ومطالبة الجامعة وإدارتها بالبحث عن مصادر تمويل أخرى لا تكون على حساب الطلاب الذين يعانون حتى للوصول إلى جامعتهم.
تم تصنيف الجامعة اللبنانية في المرتبة الأولى في السمعة المهنية لبنانياً، وفي المرتبة الثانية في الشرق الأوسط وفق تصنيف QS العالمي المتخصص بالسمعة المهنية لخريجي الجامعات العالمية. كما حصدت «اللبنانية» موقعاً متقدماً عالمياً إذ حلت في المركز 577 وأثبتت بذلك أنها أفضل من الكثير من الجامعات العالمية.
إذاً لم يَعُدْ لهذه الجامعة العريقة أن تثبت أهليتها وكفاءتها الأكاديمية إنما عليها أن تناضل من أجل الاستمرار وسط أزمة مالية عاتية تعصف بها وببلاد الأرز.
إدارة الجامعة وجدت في زيادة الرسوم خطوةً لا بد منها لضمان إستمرارية الجامعة وتأمين مصلحة الطلاب وإن كانت غير كافية.
«الراي» تحدثت الى رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور بسام بدران لتقف منه على أحوال الجامعة وكيف يمكنه طمأنة الطلاب إلى مصير عامهم الجامعي.
ويقول بدران: «لم تكن الأعوام السابقة طبيعية في الجامعة اللبنانية، بدءاً من التعليم عن بُعْد ومن ثم تكرار توقُّف الدروس في غالبية الفروع بسبب الإضرابات المتكررة. لكننا حرصنا في العام الماضي أي 2022 – 2023 على تأمين عام دراسي سليم لم يتخلله أي توقُّف، وأنهينا السنة في شكل ممتاز رغم كل التحديات.
وجاء هذا الإنجاز بجهود الأساتذة والموظفين والمدربين والإدارة.
وما كان يحكى عن تدريس على ضوء الشمعة وعن إنقطاعٍ للمياه في الفروع وغياب النظافة، كله إستطعنا تخطيه.
لكننا اليوم نواجه خطر فقدان أساتذتنا المؤهّلين ورحيلهم عن الجامعة، ولذا كان لا بد من وضْع برنامجٍ من خمس نقاط يتطلب في جزء منه رفْع رسوم التسجيل.
ولم نبادر إلى طرح هذا الحل إلا بعدما استطعنا تأمين سنة دراسية عادية جداً ما أراح الطلاب وجعلهم يستعيدون ثقتهم بالجامعة».
تضم الجامعة اللبنانية 77 فرعاً في مختلف المناطق اللبنانية وهذا الرقم وحده كفيل بإعطاء صورة عن التكاليف الباهظة التي تتكبّدها لتأمين الأمور اللوجستية لهذه الفروع من مازوت للمولدات وزيوت وفيلترات في ظل غياب التيار الكهربائي وإيجار للمباني إضافة إلى تأمين الحراسة والنظافة والمياه وكل المعدات الدراسية وما تتطلبه الامتحانات من أوراق وحبر وما إلى ذلك.. حتى أن أحد دكاترة الجامعة كشف لـ «الراي» أنه طُلب إليه تغيير نظام الامتحان والأسئلة المتعددة الخيارات لتوفير الورق وخفْض عدده، وطُلب من آخرين تصوير مسابقاتهم على حسابهم الخاص نظراً لعدم توافر الحبر لطباعتها.
وهذا إن دل على شيء فعلى الوضع المالي السيء الذي تعانيه الجامعة.
فهي مثل كل المؤسسات العامة في الدولة اللبنانية على شفير الهاوية ولو لم يسارع رئيس الجامعة إلى دق ناقوس الخطر لكانت وصلت إلى ما وصل إليه ربما «تلفزيون لبنان» الرسمي وكانت النهاية بالنسبة إلى طلابها وأستاذتها وكل العاملين فيها.
فرفْع رسوم التسجيل جاء كخشبة خلاص إمتدت إلى الجامعة.
ولكن أين مساهمة الحكومة اللبنانية في ميزانية الجامعة؟ وما الخطوات التي اتُخذت لتصحيح وضع الأساتذة على إختلاف فئاتهم؟، يقول الدكتور بسام بدران انه عندما تَسَلَّمَ رئاسة الجامعة «كان الوضع سيئاً جداً والأساتذة مضربين وكل شيء متوقف والجامعة تعاني من تراجع في عدد الطلاب نتيجة الإقفال والإضرابات.
لقد أخذ تصحيح الوضع بعض الوقت، وقد عملنا على نقاط خمس هي:
– رفْع موازنة الجامعة من الحكومة لتصل إلى 4 مليارات ونصف مليار ليرة.
– إدخال الأساتذة المتفرغين إلى ملاك الجامعة وتثبيتهم وعددهم 1000 أستاذ.
– دعْم الأساتذة والموظفين ورفْع رواتبهم وصولاً إلى دفْع ما يعادل سبعة رواتب شهرياً وتقديم تحفيز لهم على شكل بَدَلٍ مادي لإنهاء العام الدراسي.
– تفريغ الأساتذة المتعاقدين بالساعة وهو مشروع يتم التحضير له.
– تثبيت المتدرّبين. وهذه قضية شائكة، فالجامعة لم توظف أي شخص منذ العام 2019، من هنا باتت فيها فراغات وترهّلت كوادرُها.
لذا كان المطلوب إجراء إمتحانات لهؤلاء المتدرّبين، أي الموظفين غير الثابتين، لتثبيتهم وجعْلهم يتسلّمون رسمياً الوظائف التي يقومون بها عن طريق عقود سنوية». هذه الأهداف الخمسة في رأي بدران «تحفظ للجامعة بُنْيَتَها وتحافظ على أساتذتها الذين ساهموا في رفْع مستواها الأكاديمي.
وكان لا بد من ملاقاتها بمبادرة من الطلاب.. نحن لم نطرح رسوم تسجيل خيالية لا يمكن للطالب تَحَمُّلها.
ففي حين كان يَدفع سابقاً ما يعادل 500 دولار كرسْم تسجيل، نطلب منه اليوم أن يدفع 17 مليون ليرة أي أقلّ من 180 دولاراً، هذا بالنسبة لطالب الماستر، و13 مليوناً للإجازة و22 مليوناً للدكتوراه.
أما بالنسبة للطلاب الأجانب فقد زدنا الرسوم وبلغت 60 مليون ليرة للإجازة و100 مليون للماستر و300 مليون للدكتوراه وكلها أقل مما كان يَدفعه سابقاً بالدولار».
تبدو زيادة الرسوم منطقيةً، ولكن رد فعل الطلاب تجاهها له أكثر من تبرير.
بعض الطلاب يسألون بغضبٍ «أين ذهبت أموال فحوص الـ PCR التي كانت تجريها الجامعة لكل الوافدين إلى المطار إبان جائحة كورونا؟ لِمَ لا تُستعمل وهي تدرّ أرباحاً كثيرة على إدارة الجامعة؟».
ويتساءلون أيضاً «مَن يضمن لنا ألا يعود الأساتذة إلى الإضراب ونخسر نحن سنتنا الجامعية؟ كيف نؤمّن رسوم تسجيل عالية ونحن لا نملك المال للتنقل بغية الوصول إلى الجامعة؟». والطلاب مثل سواهم من المواطنين دائماً ما يسمعون أن الجميع ضدّ الجامعة اللبنانية و(الجميع) يريدون هدْمها لأنها ما زالت رمزَ وحدةِ لبنان وأن الصراعات السياسية تفتك بالجامعة ومستقبلها. هذه الأسئلة والمخاوف يقاربها الدكتور بدران بقوله: «أتفهّم وَجَعَ الطلاب وخوفَهم، فكل لبناني اليوم خائف وموجوع ويعاني حال عدم ثقة بكل المؤسسات الرسمية، وهذا حقُّه.
ومن حق الطلاب أن يفقدوا الثقة ويخشوا الإضرابات. لكن الخطة التي وضعناها للنهوض بالجامعة أتت ثمارها، واليوم نحن واثقون أن الأساتذة لن يعودوا الى الإضراب وأن العمل الإداري سينتظم. ولم نبادر إلى خطوةِ رفْع الرسوم إلا بعدما تأكدنا من كل هذه الأمور وأمنّا عاماً دراسياً ممتازاً. لكن ثمة جهلاً أو تعتيماً على كل الجهود التي قامت بها إدارة الجامعة لتصحيح وضْعها، وها نحن على الطريق السليم.
أما بالنسبة إلى فحوص الـ PCR، فنحن لم نتخل عن المطالبة بها، لكن شركات الطيران أرادت دفع عوائدها من خلال شيكات مصرفية فيما طالبْنا بقبضها نقداً وبالدولار الأميركي، وما زال الأمر عالقاً بيننا وبينهم في المَحاكم وهذا أمر يحتاج إلى وقت.
ومن جهة أخرى أَجرينا اتفاقاً استراتيجياً مع إحدى الشركات لإنتاج كمبيوترات وألواح إلكترونية صنع الجامعة اللبنانية واتفاقاً مع شركة أخرى لتجهيز المركز الصحي في الجامعة لإجراء الفحوص الطبية، وهذان الأمران يعودان بمردود كبير على الجامعة، لكنهما يحتاجان إلى بعض الوقت أيضاً».
هذه المقاربة المُقْنِعَة والواقعية لم تبدّد هواجس الطلاب الذين كـ سواهم من اللبنانيين فقدوا الثقة بالوعود، رغم أنهم حاسمون في تعلّقهم العاطفي والعميق بجامعتهم.
غير أن الهيئات الطالبية لم تسع إلى التحاور مع إدارة الجامعة ما عدا مجموعة صغيرة طلبت موعداً للحوار.
فهل الطلاب المعترضون يتحركون من تلقاء أنفسهم أم ثمة مَن يحركهم؟ ينفي رئيس الجامعة أن تكون وراء تحركات الطلاب دوافع سياسية لكنه يدرك أن التضحيةَ مطلوبةٌ من الجميع، إدارةً وأساتذةً وموظفين وطلاباً للحفاظ على صرحٍ تربوي يفاخر به لبنان.